يضيء أحمد سلامة على مختلف التوجهات السوسيولوجية في الجامعات ومراكز الأبحاث الصهيونية، وكيف ظلّ علم الاجتماع الإسرائيلي صهيونياً وعاجزاً عن إبداع دعوة اجتماعية-سياسية، لا تندرج نتائجها ضمن تطوّر المشروع الصهيوني نفسه.

يُفترض بالدراسات الأكاديمية حول العالم قدرتُها على إنتاج خطابٍ يتجاوز القناعات الأسطورية الشائعة خارج الفضاء الجامعي، غير أنّ العلوم الإنسانية في الجامعات “الإسرائيلية” تتبنَّى خطاباً يتوافق، في معظمه، مع نظرة دولة العدوّ لنفسها، ومع الهُوية المُتَخيلة للتجمُّع اليهودي الطارئ في فلسطين.

يُمكن إظهار هذا التوافق في علم الاجتماع “الإسرائيلي”، عبر فحص النتائج العمليّة لمُختلَف التوجهات السوسيولوجية التي ظهرت في الأقسام الجامعية ومراكز الأبحاث الاجتماعية، بدءاً من التوجُّهات التقليدية الصلبة، مروراً بالتوجُّهات النقدية المحافِظة، وصولاً إلى التوجُّهات النقدية الراديكالية.

يُضيء هذا المقال على التيارات الثلاثة هذه، وينتهي لنتيجةٍ مفادُها أن علم الاجتماع “الإسرائيلي” ظلَّ صهيونياً بامتيازٍ، حتى في اللحظات التي اندفع فيها إلى آخر حدوده المُمكنة، وهي لحظاتٌ قصيرةٌ، استطاع خلالها نقد الرواية الاجتماعية الصهيوينة. لكنّه ظلّ عاجزاً عن إبداع دعوةٍ اجتماعيّةٍ – سياسيّةٍ، لا تندرج نتائجها العمليّة ضمن إطار تطوُّر المشروع الصهيوني نفسه، وترتبط ارتباطاً صريحاً بدعوات التحرر الوطني التي أطلقها المجتمع الفلسطيني، يوم قام الكيان الصهيونيّ على حساب جغرافيَّته الاجتماعية.

التوجُّهات التقليدية

مَطلع خمسينيات القرن الماضي، كانت الصيهونية تُوطّد أركان “الدولة” الجديدة، وتسعى لصناعة مجتمعٍ يتبنّى “الهوّية الإسرائيلية”. قادت حركة العمل هذه المرحلة بما يحقّق استراتيجية “بوتقة الانصهار”، التي هدفت إلى صهر جميع الثقافات اليهودية في بوتقةٍ “إسرائيليةٍ” واحدةٍ، لغاية إرساء قاعدةٍ ثقافيةٍ يرتكز إليها مجتمعٌ يُحاكي الأنساق الاجتماعية الأوروبية.

خلال تلك المرحلة، ارتسمت الملامح الأولى لعلم الاجتماع “الإسرائيلي”، في الجامعة العبرية في القدس، حين استخدم عالم الاجتماع  “شموئيل نوح آيزنشتات”، المولود في بولندا، “النظرية الوظيفية – البنيوية” للدعوة إلى بلورة المجتمع اليهودي في فلسطين، بما يتناسب مع برامج بوتقة الانصهار، المُشتغلة باستيعاب المهاجرين الجدد من يهود البلدان الآسيوية والأفريقية. وبنفي الهُوية الفلسطينية عن “المواطنين العرب”[1]، وتوظيفهم لصالح إقامة المبنى الاجتماعي “الإسرائيلي”. وبناءً عليه، تمّ فهم المجتمع “الإسرائيلي” باعتباره مجموعةً من الفئات الاجتماعية التي يجب أن تعمل سويّةً؛ كلٌ وِفقَ وظيفته، لحفظ توازن الأمّة “الإسرائيلية” الناشئة.

تأسيساً على هذا الفهم، نشر “آيزنشتات”، منتصف الستينيات، كتابه المعروف المجتمع “الإسرائيلي”، وهو الكتاب الذي ظلّ، لفترةٍ طويلةٍ، مرجعاً لدراسة المجتمع الصهيوني في الجامعات الأوروبية والأمريكية. ينطلق هذا الكتاب من فصلٍ تامٍّ بين المبنى الاجتماعي “الإسرائيلي” ونظيره الفلسطيني؛ وهو  ما ينفي الصفة الاستعمارية عن دولة العدوّ، وما يتأسَّس عليه علمُ اجتماعٍ مرتبطٌ بالمنظومة الصيهونية الحاكمة.

وضع “آيزنشتات” وتلامذته أُسُسَ النموذج الوظيفي، ثم أعادوا بلورته بما يستوعب التغيُّرات الاجتماعية والسياسية المتلاحقة. اليوم، تُعتبر التوجهات المرتبطة بهذا النموذج المكوِّنَ الرئيسَ للتيار العام في علم الاجتماع “الإسرائيلي”؛ وهو التيار  الذي يتماهى خطابه مع الرواية الاجتماعية الصهيونية، حيث يتمّ النظر  إلى الصيهونية باعتبارها حركةَ تحرُّرٍ وطنيٍّ أسَّست الدولة القومية للشعب اليهودي. كما يُنظر إلى النظام السياسي “الإسرائيلي” باعتباره نظاماً ديمقراطياً ليبرالياً يساوي بين مواطنيه.[2]

هكذا، تدعم التوجُّهات التقليدية لعلم الاجتماع “الإسرائيلي”، بأجندةٍ مفضوحةٍ، أوهامَ الخطاب الاجتماعي الذي تقف عليه حقولُ المعرفة “الإسرائيلية”.

التوجُّهات النقدية المحافِظة

دَخل المجتمع الصهيوني نفقَ تداعيات حرب عام 1967، ثم توالى مروره بمنعطفاتٍ تاريخيةٍ حادّةٍ، فتبدَّلت ملامحه السياسية والاقتصادية، لتبرُزَ عدّةُ فجواتٍ بين آماله القومية وإنجازاته المُتحقِّقة، ما استوجب ظهور جيلٍ جديدٍ من علماء الاجتماع الذين خالفوا مسارات النموذج الوظيفي، لصالح نماذج تستدعي العوامل الإثنية والمادية والجندرية في فضاء الخُصومة بين فئاتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ.

يهدف النقد النظري، الذي تقدّمه هذه النماذج، لإعادة تشييد الواقع الاجتماعي، دون محاكمة المشروع السياسي الذي خلق مجتمع “الدولة الإسرائيلية”، أو كشْف المكوِّنات الاستعمارية التي تدخل في صياغة الوعي الاجتماعي. إنّه نقدٌ جزئيٌّ لقضايا حقوقيةٍ عادلةٍ، أو نقدٌ للبُنية السياسية من داخل فضاء الفكرة الصهيونية نفسها. يستحوذ هذا النقد، اليوم، على مساحةٍ واسعةٍ في علم الاجتماع “الإسرائيلي”، نتيجةً لتفاعلٍ مستمرٍ بين عّدةِ توجُّهاتٍ نقديةٍ محافِظةٍ.

قدّم عالم الاجتماع الصهيوني “يوناتان شابيرا”، أوائل السبعينيات، نموذجاً جديداً لقراءة المجتمع الصهيوني، حين تحدّث عن سيطرة الأقلِّية المرتبطة بحركة العمل على مفاصل “الدولة الإسرائيليّة”، واستئثارها بقيادة المجتمع الصهيوني ومؤسساته السياديّة. باعتبارها نخبةً سياسيةً – اقتصاديةً تتحرّك وفق العلاقات المتبادلة بين أطرافها.

وقد هاجم “شابيرا”، خلال سنوات عمله في “جامعة تل أبيب”، الطريقة التي تُدار بها اللعبة الديمقراطية “الإسرائيلية”، والبيروقراطية التي استقرت في قواعد الجيش والحكومة والاقتصاد.[3]

لقد تبلور هذا النموذج، في مواجهة النموذج الوظيفي، على قاعدةٍ صهيونيةٍ ترفض هيمنة طرفٍ “إسرائيليٍ” على آخر، وتُدافع عن ضرورة التشارك في قيادة “الدولة”، ورسم ملامحها المستقبلية.

استناداً لهذه القاعدة، رأى “شابيرا” عمله الأكاديمي مدفوعاً بحبه وإخلاصه للصهيونية[4]، رغم أنّ حمولته النقدية تتيح إمكانية التشكيك بشيءٍ من الرواية الاجتماعية الصيهونية. وقد ساهم هذا النقد، حين تبنّته نخبةٌ من الأكاديميين والمثقفين، في تحقيق الانقلاب الحكومي الذي أنجزته الانتخابات البرلمانية في السابع عشر من أيّار عام 1977، وقت ألّف حزب “الليكود” اليميني حكومةً “إسرائيليةً” جديدةً، لتنقضي ثلاثةُ عقودٍ من هيمنة حركة العمل على المشهد السياسي “الإسرائيلي”.

لم يكن هذا الانقلاب السياسي فصلاً انتخابياً انتقلت بموجبه التيارات المُعارِضة إلى مركز القرار الحكومي فحسب، بل مثّل حدثاً استثنائياً غيَّر وجه “الدولة الإسرائيلية” كُليّاً، كوْنَه خلق عالماً سياسياً – اقتصادياً جديداً في مواجهة العالم القديم لحركة العمل، مُعيداً خلال سنواتٍ قليلةٍ تشكيلَ الفضاء “الإسرائيلي” العام، وتوزيع الأدوار الرئيسة لفئات المجتمع اليهودي على أساس قِسمةٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ. جاء ذلك نتيجةً للتمزُّق الاجتماعي الحادّ بين قطبين ثقافيين مُتناقضين أظهرتهما الصورة السياسية الجديدة، بعدما كانت تُظهِر مجتعماً منسجماً متناسقاً.

أدّى صعود اليمين السياسي المتطرّف، ضمن مفارقةٍ خاصةٍ، ومن غير قصدٍ منه، إلى خلق مساهمةٍ تاريخيةٍ في تشجيع تعددية الحوار الأكاديمي “الإسرائيلي”، إذ تهشَّمت القاعدة المشتركة بين المؤسستين السياسية والأكاديمية، ونجحت فئاتٌ اجتماعيةٌ مختلفةٌ في بلورة هوياتٍ فرعيّةٍ ضيقةٍ، لبدء نضالها الخاص في الميدان السياسي الجديد، بعد سنواتٍ طويلةٍ من هيمنة المؤسسات المرتبطة بحركة العمل؛ الأمر الذي أتاح مساحةً لصوتها داخل علم الاجتماع “الإسرائيلي”.

مثَّل اليهود الشرقيون الهوية الفرعية الأهمّ في هذا السياق. وقد انتقل معظمهم، في الخمسينيات، من المدن الكبيرة في البلدان العربية والإسلامية، إلى مخيماتٍ ومساكنَ مؤقتةٍ أُعِدَّت لهم في فلسطين، إلى أن تمّ استيعابهم في الأحياء الفقيرة القديمة، والبلدات الجديدة في المناطق الحدودية والمهمَّشة.

في مواجهة هذا التمييز  وسياسات الاضطهاد، اندلع تمرُّدٌ شعبيٌّ عنيفٌ في حي وادي الصليب بمدينة حيفا صيف عام 1959، حين هاجم مئات اليهود المغاربة منشآتٍ تابعةً لحكومة العدوّ، بعدما قتلت الشرطة واحداً منهم.

وفي ربيع عام 1971، بدأت موجةٌ واسعةٌ من تظاهرات اليهود الشرقيين في مدينة القدس، بتنظيمٍ من حركة “الفهود السود”، التي استلهمت نضال الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية في الدعوة لمساواة اليهود الشرقيين بالغربيين. قابلت حكومة العدوّ آلاف المحتجّين بالقمع والاعتقالات، وما لبث نشاط الحركة أن خَفَت وتضاءل، بعد ملاحقة الأجهزة الأمنية لقيادتها، والانشقاقات التي فكَّكتها من الداخل.    

منتصف السبعينيات، ظهر النموذج التعدديّ، في قسم العلوم الاجتماعية بجامعة حيفا، مُنطلِقاً من نقد الهيمنة الأشكنازية[5] على الحياة العامة “الإسرائيلية”، وغياب تأثير اليهود الشرقيين والمجموعات الفرعية الأخرى؛ إذ تمّ بحث الفوارق الطبقية بين “المواطنين الإسرائيليين”، في قِسمة الموارد الاقتصادية والثقل السياسي والتأثير الثقافي، لكشف التمييز المُمنهج الذي يمارسه النظام “الإسرائيلي” على أساس الأصل والخلفية الثقافية.

يعَدُّ “سامي سموحه”، المولود في العراق، الأبَ المؤسِّسَ لهذا النموذج، الذي اتسع تأثيره الأكاديمي في الثمانينيات. دفع سموحه معاناة اليهود الشرقيين إلى ساحة النقاش الأكاديمي، وأضاء على بنية الطبقات الإثنية في المجتمع، ثم انتقد تبنّي التوجهات التقليدية في علم الاجتماع “الإسرائيلي” لنموذج المبنى الوظيفي، داعياً لتفسير المجتمع الصهيوني بمفاهيم السلطة والنزاع بين مجموعاتٍ مختلفةٍ ومتناقضةٍ.

انتبه نموذج “سموحه” التعدديّ لمظلومية المواطنين العرب، لكنّه رفض الإقرار بالطابع الاستعماري لدولة العدوّ، وانتهى باقتراح تركيبةٍ ديمقراطيةٍ خاصّةٍ، تمنح حقوقاً مدنيةً لجميع المواطنين، وحقوقاً قوميةً حصريةً لليهود. وهو بهذا، يُبقي العرب خارج إطار الدولة الجامع، ويلتزم بصهيونيةٍ تُساوي بين يهودها فقط.[6]

أواخر السبعينيات، ظهر نموذجٌ جديدٌ في علم الاجتماع “الإسرائيلي”، حين بحثت مجموعةٌ من الاجتماعيين الماركسيين نشوءَ منظومةٍ طبقيّةٍ جديدةٍ في المجتمع؛ عنصُراها طبقةٌ وسطى أشكنازيّةٌ، وطبقةُ عمالٍ شرقيةٌ. يمثّل اليهود الشرقيون في هذه المنظومة، وإلى جانبهم المواطنون العرب، بروليتاريا البنية الاقتصادية التي يعود نفعها للطبقات اليهودية العليا. [7]

إنّ أحد أهم الأسماء المرتبطة بهذا النموذج هو “شلومو سـﭬيرسكي”، عالم الاجتماع الذي عمل محاضراً في جامعتي حيفا وتل أبيب، والذي يرأس الآن مركزاً لدراسة المساواة في المجتمع الصهيوني. يدعو “سـﭬيرسكي” لردم الفجوة في الأجور، بين المجموعات اليهودية المختلفة، والعرب واليهود، والنساء والرجال. وينادي بأهمّية تنمية المناطق السَكنية المهمّشة، ومواجهة الأزمات الاقتصادية المرتبطة بمشكلاتٍ اجتماعيةٍ محدّدةٍ. [8]

تغيب عن هذا النموذج الماركسي آلياتُ التحليل السياسي، والعوامل الثقافية الفاعلة في بناء الواقع الاجتماعي، ليصوِّر الحلول الاقتصادية، التي يشتقُّها من صراعات البنية الطبقية القائمة، صالحةً لتسوية بقية الصراعات السياسية والقومية.

لا يُقيم هذا النموذج اعتباراً للمسألة الاستعمارية وتشعُّباتها الإثنية، ولا يتعامل مع الحقوق الجماعية التي اخترقتها لوازمُ الوجود الصيهوني في فلسطين. ويمضي، بدلاً من ذلك، لمحاولة كسب ولاء الفرد للدولة، بتنمية أوضاع جماعته اقتصادياً. يحدث هذا باسم العدالة الاجتماعية لصالح تطبيع دولة العدوّ كأنّها دولةٌ عاديةٌ .

التوجُّهات النقدية الراديكالية

يُقصد بالنقد الاجتماعي الراديكالي ذلك النقدُ الذي يشير  إلى مصدر التناقضات الرئيس في المجتمع “الإسرائيلي”؛ أي القاعدة الاستعمارية – الاستيطانية التي يقف عليها المهاجرون اليهود وأبناؤهم، وإلى جانبهم مجموعةُ السكان الأصليين؛ الفلسطينيون الذين مُنحوا “الجنسية الإسرائيلية”. كما يشير إلى ما ترتبط به هذه القاعدة من ديناميّاتٍ اجتماعيةٍ تتحرّك وفق رغبة السُلطة في تطبيع هذه الحالة الطارئة، والمحافظة على علاقات القهر  والسطوة والسيطرة بين المستعمِر  والمستعمَر في الوقت ذاته.

إذاً، التوجهات النقدية الراديكالية هي توجُّهاتٌ ترتبط بنموذجٍ يرى المجتمع “الإسرائيلي” نتاجَ عمليةٍ استعماريةٍ. وبهذا، تكون هذه التوجهات، التي ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات، قد شدَّت علم الاجتماع “الإسرائيلي” إلى حوافه، واستطاعت رؤية دولة العدوّ بمنظارٍ  يختلف عن منظارها. غير أنّ هذا النقد، الذي تبنّته أصواتٌ قليلةٌ، والذي تواجهه المؤسسة الأكاديمية بالتجاهل والتهميش، يكتفي، في معظم حالاته، بطرحٍ توصيفيٍّ يحاول الإحاطة بمُجريات التاريخ الاجتماعي لنشوء المجتمع “الإسرائيلي”، وفهم التناقض الوجودي مع المحيط العربي، دون أن يقدّم دعوةً لتفكيك الحالة الاستعمارية القائمة، مُحتفِظاً بمخرج مقارنة الدولة “الإسرائيلية” بدول العالم الجديد؛ أستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها أيضاً نتاجَ عمليةٍ استعماريةٍ.

لعلَّ عالم الاجتماع، “باروخ كيمرلينغ”، أهمُّ الأسماء المرتبطة بهذا النموذج؛ إذ هو أول من درس المجتمع “الإسرائيلي” بالاستناد إلى الأرضية المشتركة مع المجتمع الفلسطيني، وعَقَد مقارنةً مباشرةً بين الاستعمار الأمريكي وعواقبه على السكان الأصليين هناك، والاستعمار الصهيوني وعواقبه على الفلسطينين. وحذا حذوَه “غيرشون شافير”، الذي استخدم أدواتٍ ماركسيّةً لكشف الأسباب الحقيقية وراء التطور التاريخي لمؤسسات الاستيطان اليهودي في فلسطين، وهي أسبابٌ اقتصاديّةٌ تتعلّق بتنافس العمالة الزراعية الوافدة مع العمَّال الفلسطينيين، وقلة الأراضي المُتاحة لاستخدام اليهود. [9]

كما استند” أفيشاي إيرليخ”، من كلية يافا الأكاديمية، إلى حالة الصراع المزمن مع المجتمع الفلسطيني ومحيطه العربي، لفهم المجتمع “الإسرائيلي” الذي سمّاه “مجتمع الحرب الدائمة”، باعتباره مجتمعاً يواصل انتقاله من مواجهةٍ لأخرى، لاحتواء مأزق شرعيته، وتطبيع وجوده الطارئ في المنطقة.

يُجادل “إيرليخ” أنّ هذا الصراع هو العاملُ الأهمُّ في تكوين واقع المجتمع وآفاق مستقبله؛[10] ما يعني حضور المجتمع الفلسطيني في الحياة الاجتماعية “الإسرائيلية”، وضرورة فحص الإيمان بقوميةٍ يهوديةٍ منفصلةٍ عن الوجود الفلسطيني.

وفي العودة لليهود الشرقيين، وتَتبُّع مسارات النضال الشرقي، نجد لدى “يهودا شنهاف” ما يمكن اعتباره نقداً راديكيالياً. “شنهاف”، أستاذ علم الاجتماع في جامعة تل أبيب، قدّم في التسعينيات قراءةً “ما بعد كولونياليةٍ” لليهود الشرقيين في المجتمع “الإسرائيلي” [11]، حين انتقد ما يكرّسه الخطاب “الإسرائيلي” من تضادٍّ بين الهويتين العربية واليهودية، مُعتبراً الحركة الصهيونية مشروعاً غربيّاً طمسَ الملامح الشرقية ليهود البلدان العربية والإسلامية، ضمن سياقٍ استعماريٍّ يحتفظ بالنظرة الاستشراقية التقليدية.

وقد أسَّس “شنهاف”، وهو يهوديٌّ شرقيٌّ، مع مجموعةٍ من الأكاديميين والمثقفين، حركةَ “القوس الديمقراطي الشرقي”؛ وهي حركةٌ اجتماعيةٌ – سياسيةٌ تُعنى بالدفاع عن الهوية الشرقية “الإسرائيلية”، وتسعى لنشر القيم الديمقراطية في المجتمع “الإسرائيلي”.

وقد اقتربت توجهاتٌ أخرى من مركز النقد الراديكالي، حين وقفت على الأسباب التاريخية لأوضاعٍ اجتماعيةٍ راهنةٍ. لكنّ تأثيرها ظل محدوداً في البيئة الجامعية “الإسرائيلية”، التي تُدين الأصوات المُعاكسة لتيارها العام، وتُلاحق أصحابها، وإنْ كانت الحقائق الاجتماعية – التاريخية التي تقدُّمها هذه الأصوات، تُستخدم في الدعوة لتعديل الواقع الاستعماري بدلاً من تفكيكه، كوْنَ كلِّ تشكيكٍ بالرواية الاجتماعية الصهيونية يعني، نظرياً، ضرورةَ التشكيك بشرعيّة “الدولة الإسرائيلية”، والاعتراف بشيٍء من الرواية العربية الفلسطينية.

خاتمة
يوافق مهند مصطفى، أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، على اعتبار “المؤرخين الجدد”[12] إفرازاً لعمليةٍ طويلةٍ بدأت في علم الاجتماع “الإسرائيلي”،[13] حيث ظهر الخطاب النقدي في أقسام علم الاجتماع قبل أن ينتقل للدراسات الثقافية والتاريخية.

وبهذا، يكون النقد الاجتماعيّ الأكاديميّ أساسَ الحالة الثقافية “الإسرائيلية” التي تُحاول تجاوز الأيديولوجيا الصهيونية على قاعدٍة مدنيّةٍ ليبراليةٍ وعالميةٍ، المعروفة بـ”ما بعد الصهيونية”، وهي الحالة التي صَعدَ نجمُها في تسعينيات القرن الفائت، قبل أفوله مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وتبنّي المؤسسة الأكاديمية نسخةً صهيونيةً أكثرَ تشدُّداً، خصوصاً في ظلّ انزياح المجتمع “الإسرائيلي” إلى أقصى اليمين السياسي، وما يرافقه من نزوعٍ نحو تأصيل العداء والكراهية تجاه الهوية الفلسطينية ومحيطها العربي.

اليوم، وفي سياق الحديث عن النتائج العمليّة، يُمكن حثُّ الأوساط المعرفية والأكاديمية حول العالم على الاقتراب من حقيقة الوجود الصهيوني في فلسطين، عبر إظهار وجهات نظرٍ نقديةٍ من داخل علم الاجتماع “الإسرائيلي”، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ كلَّ نقدٍ لا يتضمّن اعتباراً أساسياً لمسألة الاستعمار الاستيطاني التي تحقَّق بها مشروع” الدولة الإسرائيلية”، هو نقدٌ يساهم في تطوُّر المشروع بدلاً من مواجهته، حيث يتمّ الحديث عن جوانبَ اقتصاديةٍ وحقوقيةٍ وإثنيةٍ وجندريةٍ داخل الفضاء القانوني – الإداري القائم، دون نقد القاعدة السياسية الصهيونية التي تأسَّست فوق الجغرافيا الاجتماعية الفلسطينية.

****
الهوامش:

[1] “المواطنون العرب” هم الفلسطينيون الذين بقوا في أرضهم بعد النكبة، وقد مُنحوا الجنسية الإسرائيلية. وهم يشكلون الآن 12% من مجموع الشعب الفلسطيني.
[2] Sammy Smooha,  (2009). “Israeli Sociology’s Position in International Sociology and the challenges It Faces.
[3] [Book, in Hebrew] Yonatan Shapiro, (“Democracy in Israel” (1977), “הדמוקרטיה בישראל”)
[4] “Alek D. Epstein (2004). Azure Journal, Winter 2004, no 16, “The Decline of Israeli Sociology
[5] اليهود الأشكناز هم المواطنون الإسرائيليون ذوو الأصول الغربية؛ نسبتهم الأعلى من دول أوروبا الشرقية، وبقيتهم من غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
[6] من تقديم د.عزمي بشارة لكتاب باروخ كيمرلنغ “المجتمع الإسرائيلي مهاجرون مستعمرون مواليد البلد”، المنظمة العربية للترجمة. (2011)، صـ 30
[7] “اليهود الشرقيون في إسرائيل: الواقع واحتمالات المستقبل”، مجموعة مؤلفين – دراسة  أودي أديب، مركز دراسات الوحدة العربية. (2003) صـ 36”
[8] بالإمكان مراجعة التقارير التي يُصدرها مركز “أدﭬا بشكلٍ دروي، بالعربية والعبرية والإنجليزية“Adva–אדוה
[9] Uri Ram,(1995) ,“The Changing Agenda of Israeli Sociology: Theory, Ideology, and Identity”, 9th Chapter.
Ilan Pappé (1999), “The Israel/Palestine Question”, 4th Chapter By: Uri Ram. [10]
Yehouda Shenhav, (2006) “The Arab Jews: A Postcolonial Reading of Nationalism, Religion and Ethnicity[11]
[12] المؤرخون الجدد: مصطلحٌ يُطلق على مجموعةٍ من المؤرخين الإسرائيليين الذين قدّموا حقائقَ تاريخيةً مخالفةً للرواية الصهيونية التقليدية حول قيام الدولة الإسرائيلية.
[13] مهند مصطفى، (2013)،  “المؤرخون الجدد: خارج المنظومة أم جزء منها “، ملحق فلسطين – جريدة السفير اللبنانية/نوفمبر.