يمثّل رمضان دبش الشخصيّة الوصوليّة التي تسعى إلى الزعامة، بعدما تضخّم شعورها بأهميةِ ذاتِها لكثرة ما كال أسيادُه المستعمرون له من مديحٍ، مُشعرينه بالأهمية. ولكن، تجيء وصوليّتهُ المريضةُ هذه في وقتٍ تعيشُ فيه القدس أحلك أوقاتها. ومن هنا، تأتي خطورة أن يتحوّل دبش من حالةٍ شاذةٍ إلى “نموذجٍ للخلاص”، في ظلِّ الفراغ السياسيّ النضاليّ في القدس. ولا تتوقف خطورة هذا النموذج عند خرق الإجماع الوطنيّ، وإنّما تتعداها، إذا لم يتمّ وقفُه عند حدّه بمقاطعة الانتخابات، إلى إسقاطٍ جماعيٍّ سياسيٍّ للمجتمع المقدسي.

الوضع في القدس خطيرٌ وخطيرٌ جداً، تنام المدينةُ وتصحو على خبر تسريب عقارٍ جديدٍ للمستوطنين. وفي هذا الأمر على وجه التحديد، لا يُمكننا تحميل المسؤوليّة للعدو، بينما نلعبُ دور الضحيّة المُريح، فمن باع وسمسر وغطّى وتساهَل همّ من بني جلدتنا، كما لم تتدخّل “إسرائيل” إلّا لحماية عصابة العملاء هذه.
إنّها العمالة إذاً وقد علا صوتها.

وليس بعيداً عن العمالة، وعلى بعدِ ثلاثة أيامٍ من موعد انتخابات “بلديّة القدس”،  ينشطُ المدعو رمضان دبش، مرشحُ “الليكود” العربيّ في الدعاية الانتخابيّة عن أوّل قائمةٍ عربيّةٍ في انتخابات البلديّة الصهيونيّة. وهي ذات البلدية التي تنشطُ، من وراء الكواليس، في حملة “شراء” العقارات المقدسيّة ضمن مخططات تهويد المدينة، كما يظهرُ في مقابلة عضو المجلس البلديّ فيها “آريه كينج” (الذي سيكون “زميل” دبش فيما لو نجح)، مع هيئة الإذاعة البريطانيّة (BBC)، في 12 تشرين الأوّل 2018، حيث قال إنّه “سيتمّ الإعلان قريباً عن صفقاتٍ جديدةٍ في القدس الشرقيّة لممتلكاتٍ بيعت من قبل فلسطينيّين ليهود”.

وللمرّة الأولى منذ احتلال القدس، يترشّحُ “مقدسيٌّ” في انتخابات البلديّة الصهيونيّة، ويقود حملةً انتخابيّةً علنيّةً منظّمةً وكثيفةً، بلّ وأكثر من ذلك، نحن أمام مُرشّحٍ يحمل أجندةً صهيونيّةً ليكوديّةً تتخفّى وراء الهموم المعيشيّة للمقدسيّين.

فمنذُ سنوات، ينشطُ دبش في حزب “الليكود” باعترافه، ويثابرُ في تسهيل اختراق المؤسّسات الصهيونيّة للمجتمع المقدسيّ، باعترافه أيضاً، كما يرى في مستقبل المدينة أن تكون عاصمةً موحّدةً لـ “إسرائيل”. وفي حملته الانتخابيّة، يشدّد “ابن الليكود” على استخدام كلمة “مقدسيّ” كهويةٍ انفصاليّةٍ عن الكلّ الفلسطينيّ من جهة، وكهويةٍ لأقلّيّةٍ في “دولةٍ عادلةٍ” لم تُعطِهم حقهم لأنّهم لم يُحسنوا المطالبة بها، من جهةٍ أخرى. يقدّم دبش نفسه بصفتِه ابن المؤسّسة الصهيونيّة، العارف بلغتها وكواليسها، مستشهداً بإنجازاته الخدماتيّة في المركز الجماهيريّ في صور باهر كتعبيد الطرقات وتحسين الخدمات. مع العلم بأنّ كلّ التحسينات وزيادة الميزانيّات التي خصّصتها البلدية لـ”شرقي القدس” جاءت بقرارٍ سياسيٍّ صهيونيٍّ لتثبيت سيادة “إسرائيل” على شرقي المدينة. وضمن هذا القرار السياسيّ، وضمن سياق إنشاء “المراكز الجماهيريّة” وغيرها من المؤسّسات الصهيونيّة، لمع نجم دبش وأمثاله.

وفي الوقت ذاته، يقدّم دبش للصهاينة، الذين لا ينسون التاريخ، فرصةً ذهبيّةً وتاريخيّةً لإغلاق الحساب التاريخيّ ما بين المشروع الصهيونيّ وبين صور باهر، التي وقفت سدّاً منيعاً أمام المشروع الصهيونيّ في حرب النكبة وما تلاها، وأيُّ انتقامٍ أشدُّ من أن تتحوّل صور باهر من حاضنةٍ تاريخيّةٍ للمقاومة إلى حاضنةٍ يُريدها الصهاينة لـ “ابن الليكود”.

وكما تقوم أجهزة المخابرات الصهيونيّة باستغلال الاحتياجات والأزمات كمدخلٍ للابتزاز والإسقاط، يقوم دبش، كذلك، ضمن مسعاه للإسقاط الجماعيّ السياسيّ للمجتمع المقدسيّ، باستخدام ذات الأساليب، مشدّداً في دعايته الانتخابيّة على أزمات وصعوبات الحياة التي يواجهها الإنسان المقدسيّ، ويقول في برنامجه الانتخابيّ:

“وقفُ هدم البيوت، مخطّطاتٌ هيكليّة، مكافحةُ التهجير وسحبُ الهويات… إنّ التمثيل في البلدية هو فقط من أجل الحصول على الخدمات المستحقّة، وليس من أجل التطبيع كما يدّعي البعض”. وهنا، لا بدّ من التشديد على أنّ المطالبة بالحقوق الخدماتيّة، في مقابل الضرائب الباهظة التي يدفعها المقدسيون، هو جزءٌ من نضالنا الوطنيّ ضدّ الاحتلال الصهيونيّ، ولكنّ ثمّة فرقاً بين النضال لانتزاعها  “قانونيّاً”، دون تقديم أيّ ثمنٍ سياسيٍّ، على اعتبار “إسرائيل دولة قانون ومؤسسات”، على حدّ قول دبش، وبين أن يتمّ استخدامُها كذريعةٍ لإعطاء شرعيّةٍ من أهل القدس للصهاينة في مدينتهم، والإسقاط السياسي لهم؛ بجعل الصَهينة وجهةً للمستقبل السياسيّ للمدينة، خاصةً أنّ القررات الأساسيّة المتعلّقة بالقدس يتمّ اتّخاذها على مستوى القرار السياسي، لا مستوى السلطات المحليّة. 

وفي تفسيره لمقاطعة المقدسيّين لانتخابات بلدية الاحتلال، يعتمدُ دبش على تكرار الحديث عن دور و”إرهاب” السلطة الفلسطينيّة للمقدسيّين، قائلاً إنّه لولا التهديدات لشهدنا إقبالاً كثيفاً على انتخابات البلديّة. يكرّرُ دبش هنا ما يقوله الصهاينة عادةً في تحميل “الفئات المتطرّفة” مسؤولية فرض مواقفَ وطنيّةٍ على المجتمع الفلسطيني، وفي قول دبش هذا إهانةٌ للمقدسيّين الذين يقول إنّه “واثقٌ من قدرتهم على اتّخاذ القرار الصحيح”.

وكأنّ المقدسيّين قطيعٌ، لا موقفَ وطنيّاً لهم، يرتعدون من تهديدات السلطة، ويتناسى “ابن الليكود” أنّ رجالات السلطة الفلسطينيّة أنفسهم لا يدخلون المدينة إلّا تحت حراسةٍ خوفاً من أهلها، وأنّهُ ما دخلها أحدُ عُتَاة السلطة، إلّا وأُهين وطُرد منها، مهما علا جبروته. 

يمثّل رمضان دبش الشخصيّة الوصوليّة التي تسعى إلى الزعامة، بعدما تضخّم شعورها بأهميةِ ذاتِها لكثرة ما كال أسيادُه المستعمرون له من مديحٍ، مُشعرينه بالأهمية. ولكن، تجيء وصوليّتهُ المريضةُ هذه في وقتٍ تعيشُ فيه القدس أحلك أوقاتها. ومن هنا، تأتي خطورة أن يتحوّل دبش من حالةٍ شاذةٍ إلى “نموذجٍ للخلاص”، في ظلِّ الفراغ السياسيّ النضاليّ في القدس. ولا تتوقف خطورة هذا النموذج عند خرق الإجماع الوطنيّ، وإنّما تتعداها، إذا لم يتمّ وقفُه عند حدّه بمقاطعة الانتخابات، إلى إسقاطٍ جماعيٍّ سياسيٍّ للمجتمع المقدسي.

ولحسن حظنا، فإنّ ما يلزم لتعطيله اليوم ليس أكثر من المقاطعة الصارمة لانتخابات بلديّة الاحتلال، وهو فعلٌ لا يتطلب منّا تضحيةً جسيمةً.

قبل أيّام، وأنا في طريقي للمسجد الأقصى، سمعتُ حواراً يدور بين صاحب محلٍّ ومُسعفٍ مقدسيٍّ في “نجمة داوود الحمراء”، جاء فيه:

صاحب المحلّ مخاطباً الشاب: مش عيب عليك حاطط نجمة داوود على صدرك؟
الشاب: أنا بشتغل مسعف معهم، وبنسعف العرب مش بس يهود.
صاحب المحل: “حتى ولو، إذا مُضطرّ تلبسها في الشغل، ما تروّح على البلد وهي على صدرك، يا بتشلحها أو إلبس فوقها جكيت”.