نجح المقدسيون في السنوات الأخيرة في استعادة باب العامود كحيز اجتماعي وسياسي مستقل. في مقابل ذلك، تحاول سلطات الاحتلال إعادة تشكيل هذا الحيز بما يخدم مصالحها، وبما يتنافى مع مصالح الوجود الفلسطيني، وأمسيات رمضان هي إحدى وسائل ذلك.

للعام الثاني على التوالي، تنظم شركات فلسطينية/ رجال أعمال فلسطينيون، بمباركة ورعاية بلدية الاحتلال في القدس، وبترخيص من شرطته، أمسيات رمضانية تشمل أناشيد دينية وفعاليات ومسرحيات وغيرها، وذلك في منطقتي باب العامود وباب الساهرة في القدس المحتلة.

تضاف هذه الفعاليات إلى تصاعد نشاط بلدية الاحتلال الملحوظ منذ 3 سنوات تقريباً، في محاولة إظهار أنها “الضامن لحرية العبادات” في المدينة، من خلال المنّ على الفلسطينيين بتعليقها حبال الزينة أمام باب العامود وفي عدد من الأحياء، وغيرها من النشاطات.

ليس من الواضح بشكل أكيد حتى الآن كيف تتقاسم البلدية ورجال الأعمال هؤلاء الحصص في تنظيم تلك الفعاليات، خاصة أن بلدية الاحتلال لم تترك شعارها على أيٍّ من الإعلانات أو الدعايات لهذه الفعاليات، كما لم تذكرها صراحة في “تهنئتها” التي نشرتها بمناسبة شهر رمضان. في المقابل، تشير بعض الأخبار إلى أن تلك الفعاليات تُنظَم بمبادرة وتمويل رجال أعمال فلسطينيين يحظون بدعم وتسهيل ومباركة من بلدية الاحتلال، وترخيص لإقامة هذه الفعاليات من قبل شرطة الاحتلال. وأياً كان الخبر اليقين، فهي تبقى فعاليات بمباركة وإذن من سلطات الاحتلال، وتتعارض مع الرغبة الوطنية برفض هذه السلطات والاستقلال عنها قدر الإمكان.

يشكّل رجال الأعمال الصاعدون هؤلاء شريحة اقتصادية قديمة متجددة في مدينة القدس، ويشبه صعودها صعود شريحة رأس المال الفلسطينية التي تشكّلت في الضفة الغربية على هامش اتفاقية أوسلو. تنمو هذه الشريحة في القدس على هامش خطط الاحتلال الأخيرة في تطبيق سياسة العصا والجزرة ضدّ المقدسيين بهدف احتواء غضبهم وتحييدهم عن الفعل النضالي السياسي الشعبي، خاصة بعد الهبة الشعبية الأخيرة.

وقد اتسعت دوائر هذه الشريحة مع الميزانيات الجديدة التي خصصتها سلطات الاحتلال تحت عنوان “تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي” للمقدسيين، وهنا يحقّ لنا السؤال: ما الدافع الذي يقف وراء هذه الميزانيات والمبادرات، لماذا تريد سلطات الاحتلال “تحسين” أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية؟ ليس من المنطق أن نحلل وننظر إلى ذلك وكأنه نابع من “الرغبة الخالصة بخدمة مصالح الفلسطينيين في القدس”.

تتألف هذه الشريحة في القدس في غالبها من بعض رجال الأعمال الذين يسعون لتوسيع نشاطهم الاقتصادي، أو ممن يحاولون استنساخ تجربة “شركات العلاقات العامة الصهيونية”، والباحثين عن أي “طريق” من أبناء العشرينات. وبطبيعة الحال تتكلم هذه الشريحة في بنيتها الداخلية لغة الأرباح والاستثمارات، وتجيد الحديث باللغة العبرية بطلاقة.

أما عن نشاطاتهم وتأطيرها أمام الخارج، فبعضهم يقول علانية أنه تاجرٌ لا أكثر “يبحث عن الربح”، وعندما تواجهه بإشكاليات تنسيقه وتعامله الواضح والمباشر مع شرطة الاحتلال وبلدية الاحتلال، لا يرى في ذلك ضيراً، ويكتفي بالردّ بالجملة الشهيرة: “جاي تحكي عني؟ روح شوف فلان”.

أما النوع الآخر، فهو الذي يوّظف الشعارات الرنانة التي لطالما رددها من يعتبرون “وجوهاً وطنية” في القدس، والذين يظهرون كثيراً أمام الكاميرات. هذا النوع يوّظف تلك الشعارات الممجوجة ليقول لنا أنه “يساهم في عمله هذا في تثبيت الفلسطيني في القدس”، وأنه يساهم في “إحياء ليالي القدس تجارياً وثقافياً وترفيهياً”. ولا يفوته أن يقول لك أنه “مظلوم” وأن هناك بعض “الزعران” في البلد يغارون منه ومن إنجازاته، ولذلك ينتقدون فعالياته وارتباطاته ببلدية الاحتلال. وقد يأتي من يدعمه في النقاش فيقول: “ها وين يروحوا أولادنا ينبسطوا؟ ضروري نمرّ عن حاجز قلنديا ونروح ع رام الله نغيّر جو؟ ولا بتحبوا نروح عند اليهود؟”.

وفي معرض هذا النقاش، لا يفوت البعض الإشارة إلى بعض المؤسسات الفلسطينية العاملة في المدينة، بهدف المقارنة بين التمويل الذي تلقاه هو من بلدية الاحتلال وجهات صهيونية أخرى، وبين التمويل الأجنبي الذي تتلقاه تلك المؤسسات والتي قد “تأخذ” بعضه لجيبها الخاصّ، عدا عن وقوعها في اشتراطات المانح الأجنبي، وهذه المقارنة هي في “أفضل الأحوال” حقٌ أريد به باطل، مع الكثير من التحفظات على هذا الإدعاء.

في نهاية المطاف، غالبية رجال الأعمال الصاعدين هؤلاء يجرّهم المال وبناء المكانة الاقتصادية، وربط مصالحهم الاقتصادية تلك بمن يظنون أنه “سيضمن استمرارها”، ويُفهم من إصرارهم أنه لا يهم في سبيل تحقيق ذلك التضحية بأية مبادىء أو منجزات وطنية شعبية. 

لماذا نرفض هذه الفعاليات الرمضانية\ المرخصة؟

أما السؤال الأساسي المطروح هنا فهو: “لماذا من الخطر أن نقبل بمثل هذه الفعاليات في القدس التي تأتي بترخيص من شرطة الاحتلال؟”. وتتفرع أسئلة أخرى من هذا السؤال، مثل: “طيب يا سيدي مهو اذا ما أخذنا تصريح بلدية وتصريح شرطة الفعالية بتنمنع وبتنلغى”، أو مثلاً: “من حقنا كسكان ندفع الضرائب أن تنظم لنا البلدية هذه الفعاليات”، وغيرها من الأسئلة والنقاشات (ملاحظة: قد لا تكون أمسيات رمضان هذا العام بتمويل مباشر من بلدية الاحتلال، لكن من المهم طرح هذا النقاش لأنه مرتبط بذات الأفكار والوقائع).

إنها بلدية الاحتلال، لا بلدية القدس!

إن أساس بناء أي موقف من هذه الفعاليات الرمضانية وغير الرمضانية هو موقفك من بلدية الاحتلال، أو بالأحرى إذا أردت أن تقيّم هذه الفعاليات وتحدد موقفك منها، فإن السؤال البديهي الأول الذي تجدر الإجابة عنه هو “من أنا بالنسبة لبلدية الاحتلال، ومن بلدية الاحتلال بالنسبة لي؟ كيف أحدد هذا الموقف منها وبناء على أية معايير”.

تبدو إجابة هذا السؤال بديهية، ولكن ربما يجب التذكير بين الحين والآخر، أن البلدية لا تعدو كونها ذراع من “أذرع الاحتلال”. فكونها مؤسسةً تقدم خدمات قد توصف في بعض السياقات أنها خدمات ذات طابع مدنيّ – أي غير عسكري – لا يعني أنها ليست مؤسسة استعمارية. إن بلدية الاحتلال وإن لم تكن جسماً عسكرياً أو شرطياً صهيونياً، فهي جزء من المؤسسة الاستعمارية الصهيونية في القدس، وتلتقي في رؤيتها وأفقها مع الرؤية الصهيونية العامة التي ترى في القدس عاصمة موحدة للشعب اليهودي، وهي تنشط لخدمة هذه الرؤية العامة والمشتركة.

وفي هذا السياق، لا يمكن النظر إلى البلدية ككونها جسماً يقدّم خدمات النظافة العامة وترخيص المباني وبناء المدارس هكذا كأي بلدية في العالم، وفلسطين ليست فرنسا أو إيطاليا، وبالتالي فإن وجود هذه المؤسسات الاستعمارية، وإن حملت طابعاً يوصف – تجاوزاً – أنه “مدنيّ”، هو وجود غير شرعي مبنيّ على سلب الحقوق وانتزاعها من أهل البلاد. فلقد قامت بلدية الاحتلال في القدس على أنقاض الشعب، و بلدية الاحتلال في القدس هي جهاز من أجهزة الدولة الاستعمارية، يتم توظيفه في خدمة أهداف وسياسات هذه الدولة الاستعمارية، مثلها مثل الشرطة ومثل الجيش، كل يعمل في ميدانه. وميدان البلدية هو السيطرة على الوعي وتشكيله على المستوى المحلي في القدس.

وإن كان الكثيرون سيضربون في هذا السياق المثال على هدم البيوت من قبل هذه البلدية، تنبغي الإشارة إلى الأمثلة الأخرى، فهذه هي البلدية التي ترعى لقاءات التطبيع بين الشباب الفلسطينيين والصهاينة، والتي يفاخر بها رئيس بلدية الاحتلال على صفحته على الفيسبوك بين الحين والآخر. وهي نفسها بلدية الاحتلال التي تنخرط في بناء المدارس في القدس، تحت شعار “سدّ الفجوة بين غربي القدس وشرقها” في الصفوف الدراسية، ولكنها في الحقيقة تعمق من سيطرتها على قطاع التعليم في المدينة، وتخرط في صفوف مدارسها المزيد من الطلاب الفلسطينيين، ومن ثم تمارس على إداراتهم ضغوطاً وابتزازات لقبول المنهاج الصهيوني.

باختصار،

بلدية الاحتلال في القدس هي ذراع من أذرع دولة الاحتلال، ينظر لها كأي جهاز استعماري داخل هذه الدولة، وأساس وجودها يتناقض مع وجودنا كفلسطينيين في مدينة القدس. وعليه فإن القبول بها والقبول بأنشطتها وانخراطها الواسع في حيز الحياة اليومية في القدس يعني قبولاً واستسلاماً لوجود الاحتلال في القدس، ويعني فتح الباب على مصراعيه لمزيد من التدخل وفرض الأجندات.

وهذا الموقف مرتبط ارتباطاً وثيقاً بكيفية نظرنا وتحليلنا لطبيعة علاقة المجتمع الفلسطيني في القدس ببلدية الاحتلال. فهل نحن أمام “سلطة تمارس التمييز العنصري ضدّ العرب، بحيث لو أوقفت هذا التمييز أو عدلت ولو نسبياً بين السكان تصبح مقبولة؟”، هل موضوع خلافنا مع هذه البلدية هو موضوع التمييز ضدّنا فقط؟ بحيث لو أصبحنا في اليوم التالي، ووجدنا أن أحياء الفلسطينيين في القدس نظيفة ومنظمة بنفس طريقة أحياء المستوطنين، تنتهي كل مشاكلنا مع هذه “السلطة”، ويصبح وجودنا “أفضل”، ونصبح “متعايشين” مع هذه السلطة وقابلين بوجودها في أرضنا؟

أم نحن أمام سلطة استعمار سيطرت على الأرض، ونهبت خيراتها، وبذلت ما في وسعها لإعادة هندسة هذه الأرض ومن عليها يما يتماشى مع مصالحها العليا، وبالتالي فإن مشكلتنا معها ليست مشكلة “ضرائب وحصص وحقوق”، وإنما مشكلة وجود غير شرعي بالأساس. وهنا ننبه إلى إن قولنا بممارسة الاحتلال للتمييز العنصري ضدّنا كفلسطينيين لا يأتي لاختزال الاحتلال بأنه “تمييز عنصري” وفقط، بل يعني ذلك أن التمييز العنصري ليس سوى وجه واحد من وجوه هذا الاحتلال وسياسته الاستعمارية في بلادنا ومجتمعنا، ولا يجدر أن يعمينا القول بممارسات التمييز العنصري عن الوجوه الأخرى لهذا الاحتلال، والأهم عن جوهره الأساسي، الذي هو الصراع على الوجود، على الأرض.

لا بدّ أيضاً من ملاحظة هامّة: قد يقول قائل ولكن، كيف تريدون لنا أن نرفض البلدية ونحن مرغمون سنوياً على دفع ضريبة الأرنونا، ونحن نرسل أكثر من 50% من طلابنا للدراسة في مدارسها؟ أليس ذلك ضرباً من الرومانسية؟ لا إنه ليس كذلك.

لا شك أن هناك كمية مهولة من التعقيدات التي تعيشها هذه المدينة بسبب هذا الواقع المفروض عليها، مما يحدّ من قدرتها على الوصول إلى حالة الرفض التام لأي انخراط في مؤسسات الاحتلال، ومنها البلدية. ولكن، لسبب ما، يُفضّل كثيرون استحضار السلبيات أكثر من استحضار التجارب المشرفة.

يمكننا بالرجوع إلى التاريخ القريب أن نتذكر أن هذه المدينة وأهلها لم يستسلموا، ولم يسلموا رقابهم لسلطات الاحتلال، وكانت لهم على مدار خمسين عاماً من الاحتلال تجارب فريدة في العصيان المدني، والإصرار على الاستقلالية وممارسة العمل الاجتماعي والسياسي خارج اشتراطات الاحتلال.

أما التجربة الأبرز في ذلك، فهي تجربة المجتمع الفلسطيني في القدس في تأسيس نظامٍ تعليميٍ موازٍ لنظام التعليم في بلدية الاحتلال، وذلك عقب محاولة الاحتلال فرض المنهاج الصهيوني بعد حرب 1967. لقد استطاع الفلسطينيون في القدس بنخبهم الوطنية ومعلميهم الشرفاء أن يديروا هذا النظام في بيوت مستأجرة – عرفت لاحقاً بمدارس حسني الأشهب- بينما كان مدارس بلدية الاحتلال – الرشيدية مثالاً – خاوية لا يتجاوز فيها عدد الطلاب في بعض الصفوف أصابع اليد الواحدة.

اضطرت سلطات الاحتلال في نهاية هذه التجربة العصامية الفريدة أن تتبنى المنهاج الأردني في مدارسها في العام 1974 والعدول عن فرض المنهاج الصهيوني ولو بشكل جزئي. وبطبيعة الحال، هناك من يريدنا أن ننسى هذه التجربة، وأن ننصاع متعذرين بنظام التعليم التقليدي نحو الدعوات الحديثة لتبني المنهاج الصهيوني في مدارسنا.

أما المثال الثاني الذي نذكره هنا للدلالة على قدرة الفلسطينيين في القدس – إن شاءوا – أن يبنوا تجاربهم الفريدة بعيداً عن اشتراطات الاحتلال، هو موضوع البناء “غير المرخص”. فلو انصاع الفلسطينيون في القدس للشروط الصهيونية في البناء، فإن هناك أكثر من 20 ألف بيت في القدس لم تكن لتُبنى، وهي تضم ما يزيد عن 100 ألف فلسطيني. أي أنه لو نظر الفلسطينيون في القدس إلى بلدية الاحتلال “كسلطة شرعية يُحترم قانونها”، ولو انصاعوا لقراراتها، ولم يتمردوا على اشتراطات الترخيص، لم يكن ليعيش في القدس اليوم أكثر من ثلث المقدسيين (100 ألف).

مع أننا اليوم نشهد تشديداً من بلدية الاحتلال في موضوع هدم البيوت “غير المرخصة”، ونشهد دعاية من البعض أن البناء غير المرخص “جهل”، إلا أن مثال البناء دون الخضوع لاشتراطات البلدية، هو تجربة أخرى خاضها الفلسطينيون في القدس في سبيل عدم ربط مصيرهم وأعناقهم بسلطات الاحتلال.

يدل هذان المثالان على أن المجتمع الفلسطيني في القدس قد جرب طريق العصيان المدني وخَبِره، وهو تحت وطأة دفع جزء من ثمنه يكوى وعيه ويساق للتسليم للبلدية كمرجع طبيعي لحياته. وبناء على هذا التجارب (وهناك غيرها الكثير، خذ مثلاً تشكيل أهالي البلدة القديمة لفرق إنقاذ وإسعاف ناجحة خلال ثلج عام 2013، وعدم انتظار طواقم بلدية الاحتلال)، فإن المضي قدماً في الطريق الذي تتبناه فعاليات رمضان المرخصة وما شابهها، هو تفريطٌ بإنجازات وبتضحيات من خاضوا تلك الطرق الصعبة على مدى ثلاثة أجيال من المقدسيين، فمن خوّل أصحابها بذلك؟

وفي ضوء ذلك، وعلى الرغم من حالة السوداوية التي يسعى البعض لترويجها في القدس، يبقى خيار رفض المزيد من الانخراط مطروحاً بل واجباً، وأي شيء أقل من ذلك يعيد إنتاج ثقافة مهزومة استسلامية. صحيح أن المقدسي مجبر – ربما – لأوضاعه المادية الصعبة على إرسال أولاده إلى مدارس البلدية التي لا تكلّف جيبه المرهق بالديون، وهو مضطر إلى دفع ضريبة الأرنونا حفاظاً على وجوده في بيته ومدينته، ولكنه غير مجبر على قبول اختراق نشاطات بلدية الاحتلال حيّزه الاجتماعي والثقافي والجغرافي في مدينة القدس، خاصة أنه حافظ على هذه الاستقلالية لفترات طويلة من الزمن ونجح في ذلك، ولطالما نُظِمت الفعاليات والنشاطات الترفيهية والثقافية بمعزل عن الاحتلال.

وهنا، ننتقل إلى النقطة الثانية

قتل باب العامود كحيز اجتماعي وسياسي مستقل

من المعلوم أن الاحتلال يعمد إلى تغيير الوجه الجغرافي والمعماري للأرض التي يحتلها، ويظهر ذلك جليّاً في بناء المستوطنات والشوارع التي تربط بينها فوق الأراضي الزراعية وأراضي القرى. بالإضافة إلى ذلك، هناك تغييرٌ آخر على وجه الأرض يسعى الاحتلال إلى إحداثه، وهو تغيير يمسّ ممارسة الناس وفعلهم ونشاطهم في مساحة محددة، أو بتعبير آخر هو السيطرة على الحيّز المكاني والزماني، وتشكيله بما ينفع ويخدم مصلحة الاحتلال.

لتوضيح الفكرة، لا بدّ من الحديث عن باب العامود والساحة المقامة أمامه، أو ما يسميه المقدسيون “درج باب العامود”، والتغييرات في تشكيل هذا الحيز وحضوره في السنوات الأخيرة.

لطالما شكّل باب العامود في ثقافة الفلسطينيين في القدس حيزاً اجتماعياً سياسياً، أي مكاناً يجتمعون فيه ويمارسون نشاطاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بدءاً من المظاهرات، ومروراً بنساء قرى القدس يبعن مزروعاتهن على أعتابه، وليس انتهاءً بكونه محطة عبور أساسية لمن يريد الدخول للبلدة القديمة. وقد تأثر هذا الحيز منذ احتلال المدينة بالعديد من التدخلات، منها مثلاً محاربة بلدية الاحتلال للبسطات وفرض غرامات عليها، أو ضرب الفلاحات ومنعهن من بيع بضاعتهن، وإعادة تصميم الساحة أمامه، وغير ذلك.

(اقرأ/ي المزيد عن باب العامود كنقطة تفاعل فلسطينية في القدس، هنا)

في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ العام 2011، استعاد باب العامود باعتباره حيزاً اجتماعياً وسياسياً بعضاً من مكانته، وأصبح مركزاً للتفاعل بين المقدسيين، إذ بدأنا نشهد تصاعداً في الاحتجاجات الفلسطينية التي يكون مركزها وميدانها ساحة باب العامود، بدءاً من مناصرة الثورة المصرية والتونسية، وليس انتهاء بمظاهرات في ذكرى النكبة وذكرى النكسة، ومظاهرات الانتصار للأسرى والشهداء، والاحتجاج على مهرجانات التهويد مثل مهرجان الأضواء ومسيرة الأعلام في ذكرى احتلال القدس.

ويمكن لأي فلسطيني في القدس أن يتذكر اليوم الذي نظم الفلسطينيون مهرجاناً للأطفال بعنوان “بسطة فرح”، في محاولة لتحدي عرض مهرجان الأنوار التهويدي أمام باب العامود. كان تلك الحالة شديدة التعبير عن عملية استعادة هذا الحيز، لقد ثبتت النساء مع أطفالهن على درجات باب العامود واستمرت فعاليات المرح والفرح للأطفال ما يقارب 3 ساعات، إلى أن فضّتها قوات الاحتلال بالقوة وقنابل الصوت. لم يكن ذلك المهرجان الذي شارك فيه الشباب والأطفال والنساء رفضاً لمهرجان الأنوار فحسب، وإنما كان دفاعاً حتى الرمق الأخير عن باب العامود والحقّ في امتلاكه كمركز للتفاعل بين المقدسيين وممارسة النشاطات فيه كما يريد أهله، بعيداً عن مهرجانات التهويد.

في الوقت الذي يشعر فيه الفلسطيني بالغربة في الكثير من الأراضي المسلوبة منه، ومنها غربيّ القدس، بدا باب العامود المساحة الآمنة التي يشعر فيها ابن القدس بأنه ملك في بيته ومطرحه. وفي ذلك نرى كذلك أن باب العامود تحوّل إلى مساحة تجمع الأصدقاء، ولدى البعض “فقرة يومية” هي فقرة “هيا نشرب القهوة باب العامود”.

فيما بعد تحوّل باب العامود إلى مرحلة متقدمة من ميادين النضال، بواسطة عمليات الطعن وإطلاق النار. وعندها عادت سلطات الاحتلال لتحارب الوجود الفلسطيني فيه باستشراس. ففي الأشهر الأولى للهبة الشعبية عام 2015، عمدت قوات الاحتلال إلى منع الشبان والشابات من الجلوس على درجات باب العامود، لمجرد الجلوس، بدون أي فعل احتجاجي، ولقد رأينا محاولات المقدسيين المتكررة من أجل تحدي ذلك عن طريق تنظيم مجموعات قراءة أو شرب قهوة على الدرجات، في فعل يحمل طابعاً سياسياً. يضاف إلى هذا التنكيل سلسلة الكاميرات الجديدة والمتطورة التي تمت إضافتها في مساحة باب العامود، ومن ثمّ قص الشجر وتقليمه ومنع بعض البسطات، في محاولة لبسط السيطرة وفرض “الأمن” على المكان.

لقد نجح الفلسطينيون في القدس في السنوات الست الاخيرة في استعادة حيّزهم الاجتماعي والسياسي المستقل، وغدا باب العامود مكاناً شعبياً عاماً لتجمعهم. والآن، جاءت سلطات الاحتلال تحاول إعادة تشكيل هذا الحيز بما يخدم مصالحها، وبما يتنافى مع أولويات ومصالح الوجود الفلسطيني.

ما علاقة ذلك بالأمسيات المرخصة في رمضان؟

إن هذه الأمسيات التي يُنظَم بعضها في باب العامود وبعضها الآخر باب الساهرة، هي إحدى الوسائل التي تحاول من خلالها سلطات الاحتلال إعادة تشكيل الحيز الفلسطيني، وفقاً لمصالحها. هذه الأمسيات هي العمل المضادّ لسنوات طويلة من النضال الفلسطيني من أجل استعادة هذا الحيز. لقد اعتقل واستشهد العشرات على أعتاب باب العامود في محاولة لاستعادة هذا الحيز و”تحريره”، وفي المقابل تأتي هذه الأمسيات كإحدى الوسائل لقتل هذا المنجز وقلب الطاولة على الفلسطينيين مجدداً.

يقول لنا منطق هذه الأمسيات بطريقة أو بأخرى: “إن وجودكم ونشاطكم وفعالياتكم لا يمكنها أن تخرج إلى حيز التنفيذ بدوني”. كيف يمكن لمنظمي هذه الأمسيات أن يقولوا أنهم “يخدمون” ابن القدس، في الوقت الذي لا يمكنهم أن يقوموا بهذه الأمسيات إلا بإذن من الشرطة والبلدية؟ إن هذه ليست خدمة للمقدسيين، وليست مساهمة في تثبيت المقدسيين، هي ببساطة معول هدم في القضاء على أي ملامح للوجود الفلسطيني المستقل وغير المرتبط بأجهزة الاحتلال.

وهنا يأتي سؤال آخر: ولكن هل ذلك يعني ألا يقوموا أهل القدس بأية فعاليات؟ لأن السلطات الصهيونية ببساطة لن تسمح بوجود أي فعالية دون موافقتها وتصريحها؟

بداية، يجب الانتباه إلى ألاً يكون القيام بأية نشاطات أو فعاليات هو الهدف بحد ذاته، أي ألا يكون الدافع فقط أن نقوم بأية فعاليات والسّلام بغض النظر عن الحيثيات. الأصل أن تتطبع الفعاليات الثقافية والترفيهية بطابع الوجود الفلسطيني الواعي والصامد. بمعنى آخر، لا فائدة مرجوة ولا حاجة لنا كمجتمع يعيش تحت الاستعمار من فعاليات لا تساهم في تثبيتنا والحفاظ على هويتنا ووعينا واستقلاليتنا.

ليس المقصود بذلك أن كل فعالية يجب أن تحمل رسالة سياسية في فحواها وبرنامجها، هذا ليس المطلوب، ولكن المقصود أنه من المؤسف أن نقبل في سبيل تنظيم هذه الفعاليات التفريط بأية منجزات وطنية، وأنه يجدر التفكير بالآثار “الجانبية” لأية فعاليات، أيّ يجب أن ننتبه إلى الأثمان التي ندفعها في حال القبول بمثل هذه الفعاليات المرخصة بهذا الشكل الواسع، وأبسط هذه الأثمان، أننا سنساهم في سدّ الطريق  أمام ميدان العمل الاقتصادي والتجاري والترفيهي والثقافي المستقل في القدس، وسنسلم ما تبقى لنا من القليل من مساحة العمل الحرّ على طبق من ذهب.

إن “الترخيص” مثله مثل “التصريح” أداةٌ للسيطرة والقمع بيد السلطة الاستعمارية، هذه السلطة تعمل دائماً على توسيع مجال سلطتها من خلال تحويل كلّ نشاط مجتمعي إلى نشاط مرخٌص أي تحت السيطرة والمراقبة وصولاً إلى النشاط الاحتجاجي ضدّها الذي تريده احتجاجاً مرخصاً. وبالتالي فإن صفة الوطنية في الفعاليات والأنشطة لا تتحدد بما ترفعه من شعارات وإنما تتحدد أساساً بتحديها نظام وأدوات السيطرة الاستعماري وإن لم ترفع شعاراً أو علماً أو تغنٰت بالصمود.

أما القول بأنه لا سبيل لنا لإقامة الفعاليات دون ترخيص، فهذا ليس دقيقاً، ولطالما نجحت فعاليات كثيرة في التحايل على هذه الاشتراطات، وحققت أهدافها، ونالت رضى الناس، وبالأخص تلك التي نظمتها مجموعات شبابية بجهود تطوعية بحتة.